ذكر السيوطي أن مأخذ هذه التسمية من (الحَبْك)، الذي معناه الشد، والإحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب، فحبك الثوب: سدُّ ما بين خيوطه من الفُرَج، وشدُّه، وإحكامه، بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق. وبيان أخذه منه: أن مواضع الحذف من الكلام، شُبِّهت بالفُرَج بين الخيوط، فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه، فوضع المحذوف مواضعه، كان حائكاً له، مانعاً من خلل يطرقه، فسدَّ بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق.
أما التعريف الاصطلاحي لأسلوب (الاحتباك)، فهو: أن يُحذف من أول الكلام ما أُثبت نظيره في آخره، ومن آخره ما أُثبت نظيره في أوله. قال ابن هشام : هو أن يثبت لأحدهما نظير ما حُذف من الآخر. وقال الزركشي : هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيُحذف من كل واحد منهما مقابله؛ لدلالة الآخر عليه.
أقوال العلماء في أسلوب الاحتباك
وصف العلماء أسلوب (الاحتباك) بأوصاف، تدل على أهمية هذا الأسلوب في كلام العرب، وتعويل أهل البلاغة عليه في تقويم بلاغة الكلام، فـ السيوطي يصفه بأنه "من ألطف أنواع الإيجاز وأبدعها". ويصفه ابن جابر الأندلسي بأنه "نوع عزيز" من أنواع البديع. ووصف ابن عاشور هذا الأسلوب بأنه "صنع دقيق، لا يُهمل في الكلام البليغ". أما ابن عطية فقد قال في وصف هذا الأسلوب: "وهو من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة؛ فإن من باب التكلف أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به".
والمثال الأبرز الذي يذكره البلاغيون لأسلوب الاحتباك قول أبي صخر الهذلي :
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القَطْر
فإن التقدير فيه: وإني لتعروني لذكراك هزة وانتفاضة، كهزة العصفور وانتفاضته عندما يبتل بالماء. فحذف من الأول (الانتفاض)، لدلالة الثاني عليه، وحذف من الثاني (الهزة) لدلالة الأول عليه. قالوا: ودلالة السياق تكون قاطعة بهذا المحذوف.
وقد ذكر السيوطي أن أسلوب (الاحتباك) أفرده في التصنيف برهان الدين البقاعي ، ولم نقف على عنوان هذا التصنيف. وأسلوب (الاحتباك) بحثه الزركشي تحت عنوان (الحذف المقابلي). ودراسة هذا الأسلوب يسمح أن يسمى أسلوب (الاحتباك) بأسلوب: التقابل المعنوي.
أسلوب الاحتباك في القرآن الكريم
المثال القرآني الأبرز الذي يذكره المفسرون لأسلوب (الاحتباك)، قوله تعالى: { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا } (يونس:67)، قالوا: التقدير: هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً لتتحركوا فيه لمصالحكم، فحذف من كلٍّ ما ذكر في الآخر؛ اكتفاء بالمذكور عن المتروك. قال الزمخشري في "الكشاف": "فإن قلت: ما للتقابل لم يراع في قوله: { ليسكنوا } و{ مبصرا }، حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف؛ لأن معنى { مبصرا }: ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب". ويقصد الزمخشري أن في الآية احتباك؛ إذ المعنى: جعلنا الليل مظلماً؛ ليسكنوا فيه، والنهار مبصراً؛ لينتشروا فيه.
ومن الآيات القرآنية التي جاءت على وفق هذا الأسلوب، نذكر الآيات التالية:
* قوله سبحانه: { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع } (البقرة:117)، قال السيوطي : التقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق، والذي ينعق به، فحذف من الأول الأنبياء؛ لدلالة الذي ينعق عليه، ومن الثاني الذي ينعق به؛ لدلالة الذين كفروا عليه.
* قوله سبحانه: { وللرجال عليهن درجة } (البقرة:228): قال ابن عاشور : في الآية احتباك، فالتقدير: ولهن على الرجال مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول؛ لدلالة الآخر، وبالعكس.
* قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } (البقرة:251)، في الآية احتباك، والتقدير: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، وبقية الموجودات بعضها ببعض، لفسدت الأرض، أي: مَن على الأرض، ولفسد الناس.
* قوله تعالى: { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } (آل عمران:13)، في الآية احتباك، تقديره: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت. قال الكرماني : فحذف من كل طرف ما يدل عليه الطرف الآخر، وهو أبلغ ما يكون من الكلام.
* قوله سبحانه: { وللبسنا عليهم ما يلبسون } (الأنعام:9)، في الآية احتباك؛ لأن كلا (اللَبسين) هو بتقدير الله تعالى؛ لأنه حَرَمَهم التوفيق. فالتقدير: وَلَلَبسنا عليهم في شأن المَلَك، فيلبسون على أنفسهم في شأنه، كما لَبَسنا عليهم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ يلبَسون على أنفسهم في شأنه.
* قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير } (الأنعام:17)، في الآية احتباك، كأنه قيل: إن يمسسك بضر وشر، وإن يمسسك بنفع وخير. قال ابن عطية : ناب (الضر) في هذه الآية مناب (الشر)، و(الشر) أعم، وهو مقابل (الخير).
* قوله سبحانه: { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } (الأنعام:33)، في الآية احتباك. والتقدير: فإنهم لا يكذبونك، ولا يكذبون الآيات، ولكنهم يجحدون بالآيات، ويجحدون بصدقك، فحذف من كلٍّ؛ لدلالة الآخر.
* قوله تعالى: { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } (الأعراف:58)، في الكلام احتباك؛ إذ لم يذكر وصف (الطيب) بعد نبات البلد الطيب، ولم تذكر (الأرض) الخبيثة قبل ذكر (النبات) الخبيث؛ لدلالة كلا الضدين على الآخر. والتقدير: والبلد الطيب يخرج نباته طيباً بإذن ربه، والنبات الذي خبث يخرج نكداً من البلد الخبيث.
* قوله سبحانه: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } (التوبة:19)، في الآية احتباك، أي: لا يستوي العملان مع العملين، ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين. والتقدير: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، وجعلتم سقاية الحاج وعمار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله.
* قوله تعالى: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } (التوبة:102)، في الآية احتباك، أصل الكلام: خلطوا عملاً صالحاً بسيئ، وآخر سيئاً بصالح؛ لأن الخلط يستدعي مخلوطاً ومخلوطاً به، أي: تارة أطاعوا، وخلطوا الطاعة بكبيرة، وتارة عصوا، وتداركوا المعصية بالتوبة.
* قوله تعالى: { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } (الرعد:7)، في الآية احتباك؛ إذ المعنى: إنما أنت منذر لقومك، هادٍ إياهم إلى الحق، فإن (الإنذار) و(الهدي) متلازمان، فما من (إنذار) إلا وهو (هداية) وما من (هداية) إلا وفيها (إنذار)، و(الهداية) أعم من (الإنذار). قال ابن عاشور : وهذا احتباك بديع.
* قوله سبحانه: { قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون } (هود:35)، قال الزركشي : الأصل: فإن افتريته فعلى إجرامي، وأنتم براء منه، وعليكم إجرامكم، وأنا برئ مما تجرمون، فنسبة قوله تعالى: { إجرامي } إلى قوله: (وعليكم إجرامكم)، كنسبة قوله: (وأنتم براء منه) إلى قوله تعالى: { وأنا برئ مما تجرمون }، فاكتفى من كل متناسبين بأحدهما.
* قوله سبحانه: { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } (يس:70)، في الآية احتباك؛ إذ التقدير: لتنذر من كان حيًّا، فيزداد حياة بامتثال الذكر، فيفوز، ومن كان ميتاً، فلا ينتفع بالإنذار، فيحق عليه القول، كما قال تعالى في أول السورة: { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم } (يس:11)، فجمع له بين (الإنذار) ابتداء، و(البشارة) انتهاء.
* قوله سبحانه: { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها } (الشورى:18): ففي الكلام احتباك، تقديره: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، فلا يشفقون منها، والذين آمنوا مشفقون منها، فلا يستعجلون بها.
* قوله تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } (محمد:12)، ذكر الآلوسي عن بعض الأجِّلة قوله في هذه الآية: في الكلام احتباك؛ وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولاً؛ دليلاً على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانياً، وذكر التمتع والمثوى ثانياً؛ دليلاً على حذف التقلل والمأوى أولاً.
* قوله تعالى: { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم } (الملك:22)، فإن في الآية جملتين، حذف نصف كل واحدة منهما؛ اكتفاء بنصف الأخرى. وأصل الكلام: أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى ممن يمشي سويًّا على صراط مستقيم، أمن يمشي سويًّا على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبًّا. قال الزركشي : وإنما قلنا: إن أصله هكذا؛ لأن (أفعل) التفضيل { أهدى } لا بد في معناه من المفضل عليه، وفي الآية وقع السؤال عمن في نفس الأمر، هل هذا أهدى من ذلك؟ أم ذاك أهدى من هذا؟ فلا بد من ملاحظة أربعة أمور، وليس في الآية إلا نصف إحدى الجملتين، ونصف الأخرى. والذي حُذف من هذه مذكور في تلك، والذي حُذف من تلك مذكور في هذه، فحصل المقصود مع الإيجاز والفصاحة.
* قوله تعالى: { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } (الجن:21)، في الكلام احتباك؛ لأن (الضر) يقابله (النفع)، و(الرشد) يقابله (الضلال)، فالتقدير: لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، ولا ضلالاً ولا رشداً.
ولا بأس أن تعلم بعد ما تقدم، أن بعض المفسرين لا يتحدثون عن أسلوب (الاحتباك)، ولا يذكرونه من قريب أو بعيد؛ لخروج الأمر عندهم عن منهجهم في التفسير، ويمثل هذا المنحى من المفسرين الطبري و ابن كثير . وثمة فريق آخر يقيم شأناً لهذا الأسلوب، ويتحدثون عنه عند تفسيرهم لآيات القرآن الكريم، ويمثل هذا المنحى الآلوسي و ابن عاشور .
0 التعليقات:
إرسال تعليق