دَلِيلُ الْمُتَثَقِّفِينَ

دَلِيلُ الْمُتَثَقِّفِينَ

الثلاثاء، أغسطس 02، 2011

تَرْبِيَةُ الْأَبْنَاْءِ - للدكتور محمد جمال صقر


-        بلغنا أن لكم في تدريب أبنائكم على القراءة ، منهجا خاصا ؛ فهلّا تكرمتم ببيانه !
سؤال سُئِلْتُه صباح الأحد 17/6/2001م ، على منصة مسرح كلية دبي الطبية ، بعقب محاضرتي " اللُّغَةُ الْعَرَبيَّةُ اعْتِقادٌ وَحَياةٌ " - مكتوبا بخط النسخ  الجميل ؛ فأثارني إلى ذكريات حميمة حبيبة !
ولله عندي الآن خمس نعم لا ينقضي شكرُها ، ولا التمتعُ بذكرها  مُرَتَّبَةً : ( ريم ، بَراء ، رِهام ، سُرى ، فُرات ) ، ثلاث بنات ( ريم ، رِهام ، سُرى ) ، وابنان اثنان ( بَراء ، فُرات ) - ولا الولعُ بسيرتها !
لم تكن الكتب ممتنعة عليهم بحصن حصين ، بل مرتبة على الجدران من تحت إلى فوق في رفوفها المفتوحة ، و بينها أجلس دائما على مكتبي قارئا أو كاتبا ، حتى كان من لوازم رسائلي عندئذ ، إضافة " بَيْنَ الْكُتُبِ " ، إلى التاريخ - فكانت مأوى أجسامهم وأرواحهم ، يَحْبونَ إليها صغارا ، ويمسكون بكعوب ما يستطيعون من كتب أقرب الرفوف إليهم ، ويَجُرّونها ؛ فَأُسْرِعُ إلى وضعها بأيديهم في أماكنها ، ونهيهم عن جَرِّها ، حتى تعلموا أن يعيشوا بينها حياتهم كلها جدها وهزلها ، من غير أن يعبثوا بها .
ثم لما اطمأننت إلى مجالستهم أَتَحْتُ لهم بعض الكتب والمجلات   المصورة ، وساعدتهم على تقليب صفحاتها ، حتى استطاعوا ذلك وحدهم ؛ فكانوا يمشون إليها مُتَعَثِّرينَ ، يجذبونها من على رفوفها ، إلى حيث يُقَلِّبونها وكأنهم سيقرؤونها ، مثلما أُقَلِّب وأقرأ !
ثم لما قدروا على الكلام رَتَّبْتُ لهم في كراسات صغيرة ، نصوصا كاملة من القرآن والحديث والشعر ، سورا وأحاديث وقصائد ، كنت أُحفِّظهم إياها وأَسْمَعُها منهم بين يَدَيْ مقدمة لازمة :
" بِسْمِ اللّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلى رَسولِ اللّهِ ، وَبَعْدُ ؛ فَأَنَا أَحْفَظُ الْقُرْآنَ الْكَريمَ وَالْحَديثَ الشَّريفَ وَالشِّعْرَ النَّفيسَ ؛ فَأَنَا عالِمَةُ النّاسِ وَأَديبَتُهُمُ الْمُقَدَّمَةُ - أَوْ عالِمُ النّاسِ وَأَديبُهُمُ الْمُقَدَّمُ - إِنْ شاءَ اللّهُ ، تَعالى " !
ثم لما قدروا على القراءة رَتَّبْتُ لهم مجموعات الكتب المناسبة مُتَصاعِدَةً ، من كتب العريان ، وبرانق ، والإبراشي ، وابن جَنّات ، و" كل شيء عن " المترجَمة إلى العربية - إلى كتب الندوي ، ورأفت الباشا ، وخالد محمد خالد - ثم إلى كتب عبد الحليم محمود ، والغزالي ، والبوطي - ثم إلى كتب " مكتبة الأسرة " ، و" هل تعلم لماذا " ، و" موسوعة العلوم والتكنولوجيا " - ثم إلى كتب المازني ، والعقاد ، ومحمود محمد شاكر ، ومحمد جمال صقر - ! - ثم إلى كتب شيكسبير الإنجليزية الخالصة ، وكتب العيسى وجويدة والشرقاوي المترجمة إلى الإنجليزية - ثم كتب معاجم العربية ( الوجيز ، والوسيط ، ولسان العرب ) ، والإنجليزية ( المورد ) - ثم دلتهم الكتب بعضها على بعض ! بل كثيرا ما صحبوني إلى المكتبات ولا سيما في معرض القاهرة الدولي ، فاختاروها !
وكنت أغريهم بتلوين صور الكتب غير الملونة :
-        اللّي يِخَلَّصْ كِتابْ يِلَوِّنُو !
سعيدا بذكاء أصحاب هذه الكتب ، الذين مكنوني من ذلك ، بطبع صورها مفرغة غير ملونة !
ثم علمتهم تكرار قراءة الكتب ، والتعليق عليها من أواخرها ، برقم كل قراءة ، وتاريخها ، مع توقيعاتهم :
-        تمت الأولى - أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ... - مساء السبت (...) هـ= (...) م ، ريم ، براء ، رهام ، سرى .
فكانوا يمضون في القراءة اللاحقة أسرع مما مضوا في السابقة ، ويستفيدون منها أكثر ، ويسألون فيها أقل ، فيفرحون بها أشد ، ويتنافسون :
-        براء ، انت في المره الكام ؟
-        التانيه .
-        أنا في الرابعه !
-        رهام ، انت في المره الكام ؟
-        الأولى .
-        أنا في التانيه !
كانت ريم أسرع من براء ، ثم صار براء أسرع منها ، وكانت سرى أسرع من رهام ، ثم صارت رهام أسرع منها ، ولا يدومون على حال ! ولكنهم إذا راجعوا الآن تلك الكتب ، وعثروا على تعليقاتهم ، بَشّوا لها كلهم جميعا ، بَشاشَتَهم للأحباب الزائرين !
ثم صرت أطالبهم بالتعبير في أسطر قليلة ، عما فهموه من الكتاب - ثم بالتعبير عما عاشوه في بعض المناسبات ، وأعلق لهم على هذا وذاك ، وأكافئهم بما يحبون ، حتى تَقَدَّسَتْ لديهم القراءة والكتابة !
ثم غرست لهم القراءة الحرة ، في برنامج أعمالهم اليومية :
1        الصلاة .
2        ورد القرآن الكريم .
3        مذاكرة دروس اليوم المدرسية .
4        إنجاز واجبات اليوم المدرسية .
5        مذاكرة مادة مدرسية كاملة .
6        ورد القراءة الحرة .
7        معالجة عمل الحاسوب .
8        مشاهدة مادة مُتَلْفَزة .
ولم يكونوا أنشط منهم إذا جالسوني ، وكنتُ من إخوان العزلة ؛ فكنت أصبر مضطرا ، حتى رأيت أن أحمل نفسي على التفكير بينهم في أَعْوَصِ أبحاثي ؛ ففُرِقَ لي فيه عما لم يكن في البال !
ولقد انفتح لهم بالقراءة الحرة ، باب الأسئلة الكثيرة المستمرة ، التي كانت تقطع عليَّ تفكيري ؛ فتستفزني إلى إسكاتهم حتى أفرغ ، أو إلى تعليمهم كيف يجيبونها هم وحدهم - مثلما تستفزني إلى إجابتها :
-        بابا !
-        نعم !
-        إيه الكلمة دي ؟
-        دي " أَقْبَلَ " .
-        معناها إيه ؟
-        معناها " جِهْ " .
-        ودي ؟
-        دي " قَدِمَ " .
-        معناها إيه ؟
-        معناها " جِهْ " .
-        " قَدِمَ " زي " أَقْبَلَ " !
-        مش زيها قوي ، لكن عامله زيها !
-        بابا !
-        يا نعم !
-        يعني إيه " قَدِمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه " ؟
-        " قَدَّمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه " !
-        لأ ، " قَدِمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه " !
-        وَرّيني !
-        أَهِهْ !
-        لأ ، الكسرة اللي تحت الدال دي غلط !
-        وعرفت إزاي من غير ما تشوف ؟
-        عشان اتعلمت قبلكو ! وكل ما تقروا تتعلموا ، وتبقوا زيي وأحسن مني كمان !
ثم كبروا ، وكبرت أسئلتهم ، وصعبت ، حتى أشكلت أحيانا ؛ فلم أكن أَسْتَحْيي من إجابة مُحْرِجِها دينيةً أو سياسيةً أو جنسيةً ، ولا أدعي علم ما لا أعلم منها ، بل أتمتع بإنكار علمه ، ليعلموا أن العلم لمن اجتهد في سبيل تحصيله ، لا لمن أوتي مقام الراعي ! وأتمتع بتعريف العلماء لهم ، وتقديمهم على نفسي ، ليعلموا أن فوق كل ذي علم عليمًا بَذَلَ في طلبه أعظم مما بَذَل غيره ، ينبغي أن يؤتى دون غيره ، ويستفتى ، ويعتمد رأيه وحده .
ولقد مَيَّزَتْهُمْ قراءاتهم منذ أَوَّليَّتِهِمْ ، حتى لاحظها زملاؤهم :
-        إنت عارفه - يا ريم - ان الكتب اللي بتقريها بتأثر عليك !
-        إزاي يعني ؟
-        بتخليك تفكري في حاجات غريبه !
وأساتذتهم :
-        تعال - يا براء - قول لسعادة الموجه انت قريت لمين !
-        قريت للمازني ، والعقاد ، ... .
-        يا سلام !
وجَرَّأَهُمْ منذ أَوَّليَّتِهِمْ كذلك ، مَقامُ القراءة الذي قُمْنا فيه جميعا معا :
-        إيه ده ، يا رهام !
-        إيه فيه إيه ؟
-        إنت بتكلمي الأستاذ كده إزاي !
-        إيه ! زي ما بكلم بابا .

0 التعليقات:

إرسال تعليق